في عبقرية الكاشف و فُتنت بيه .. كتب د. انس العاقب مقال جميل بصحيفة الرائد : وبهذا المفهوم البسيط العميق سيظل الكاشف في مقدمة مجددي حركة الغناء الذين فتحوا الباب واسعاً للأغنية الإذاعية الأمدرمانية (الحضرية) لكي ترتاد أفقاً جديداً منطلقاً ومتأثراً بتراث سوداني ذي خصائص شعبية ودينية وتقليدية آخذاً بالقوالب الشكلية والأساليب التي ظلت معروفة ومتوارثة ومتداولة منذ نشأة دولة الفونج في مطلع القرن السادس عشر. إبراهيم الكاشف كأي فنان مبدع حفظ التراث الغنائي وتتلمذ عليه واستوعبه ثم قدم نفسه للناس بأشكال وأطوار مختلفة بدأت من أول السلم إلى أن صعد للقمة فصار رقماً مهماً جداً في حركة الغناء وتاريخه منذ اربعينات القرن الماضي ومايزال بل ظلت ارتال من مغني الجيل الحديث يتتلمذون على مدرسته في التلحين والغناء . في هذه المقالة نكمل حديثنا عن أغنية (فتنت بيه) التي كتبها المرحوم الشاعر الفذ عبيد عبدالرحمن وسجلها الكاشف للإذاعة بتاريخ 12/7 /1958 أي ما يزيد قليلاً عن نصف قرن أي أن عدداً مقدراً من مطربي وملحني الراهن إما لم يولدوا بعد أو كانوا صبية صغاراً أو من جيلنا الذي كان يتلمس طريقه وانطلق في الستينات .(فتنت بيه) أغنية وضعت نفسها في مصاف الخوالد التي ابتدرها خليل فرح بـ(عزة) لما اتسمت به من جرأة وخيال وعمق في التعبير اللحني والموسيقي ، فإذا كانت (عزة) قد بشرت بالمدرسة الفنية الحديثة وهي تزف نفسها مع ميلاد أغنية (الحقيبة) وتتجاوزها في بنائية جديدة لا يمكن مقارنتها إلا بمدحة (شوقك شوى الضمير) لحاج الماحي رضي الله عنه وأرضاه التي أجزم واثقاً بأن حاج الماحي بهذه المدحة سبق حركة الغناء بقرن ونصف وأتمنى أن تتاح لنا الظروف لتحليل هذه المدحة الجبارة . وبمقارنة مع (عزة) التي بشرت بالتجديد وقدمت لمرحلة متقدمة عن أغنية (الحقيبه) فإن أغنية(فتنت بيه) جاءت في مقدمة الأغنيات النادرة جداً التي اقتحم بها الكاشف الحاضر والمستقبل . أغنية (فتنت بيه) للشاعر عبيد عبد الرحمن جاءت جذابة وفاتنة ومعبرة ولا أعتقد بل أكاد أجزم أن الأغنية السودانية قد عرفت مثل هذا الأسلوب في التفكير الموسيقي الذي أنتهجه الكاشف (الأمي) لأن الكاشف في تقديري يتمتع بمقدرة هندسية عالية في تشكيل الجمل الموسيقية بتفاصيل منمنة مفعمة بالحيوية والعمق لكأن النغمات عنده أحرف تشكل كلمات وجمل ذات دلالات ومعانٍ بل لربما إجادة الكاشف لصنعته في التفكير والتركيز مع الخيال لوضع تصميمات الأثاثات ثم تنفيذها ساعد الكاشف إلى حد ما في عملية التلحين من حين لآخر ذلك لأن الكاشف كما حكى لى عنه أستاذنا الراحل محمود أبو العزائم بان الكاشف كانت عملية التلحين عنده كأنه يستخرج الألحان الكامنة في دواخله او لربما كانت تتنزل عليه مرة واحدة وهذا هو سر عبقريته ولو لا ذلك كيف أستطاع هذا الرجل (الأمي) أن يؤلف المقدمة الموسيقية لأغنية (فتنت بيه) التي جاءت في جزئن ربما قد يعجزني التعبير عنهما بجلاء دون الإشارة لمسار النوتات الموسيقية بالتدوين الذي سيكشف عن عبقرية في الكيفية التي مكنته من أن يتجاوز ليس فقط التفكير الخماسي ولكن إضغام النفس السباعي في ثنايا الخماسي ولولا أن يقال عني تجوزت الشطط لقلت أن سلم اغنية (فتنت بيه) يتعين على الباحث والمنظرين أن يطلق عليه السلم (الكاشفي) بحسبان أن لا أحد لحن بهذا الأسلوب المعقد البديع لأن الكاشف أراد أن يطرق دروباً جديدة في ساحة الغناء التي كانت تحفل وتضج بتنافس لم يسبق له مثيل .. المقدمة الموسيقية حملت ثلاث أفكار فى جملتين موسيقيتين .... الجزء الأول إيقاعي سريع يحمل تمرداً واضحاً على الخماسية اللحنية التقليدية Pentatonic Tonality)) ثم اندماجاً بينهما في هندسة غريبة لكنها منطقية تماماً وكأن الكاشف هنا في هذه الجملة الموسيقية المكنة من عبارتين اراد قصدا أن يعبر عن قلق المبدع المفتتن بالجمال والمسحور بالإفتتان وأن إدخال نغمات مضافة للخماسي تزيد التعبير غموضاً وسحراً ثم تأتي بالفكرة الثالثة في عبارة غنائية قصيرة قائلة (كان مالي وأنا مالي بيه) ليدخل صوت الكاشف متسائلاً(فتنت بيه) واللازمة ترد التساؤل لماذا هذا الإفتتان (عشقت ليه) ولازمة مختلفه تؤكد ذلك التساؤل عشقاً وأخيراً يستسلم الكاشف ولا يدري ماذا يقول سوى ما اوحت به المقدمة الموسيقية (كان مالي وأنا مالي بيه) في أسى شفيف ليردد معه الكورس مواسياً (كان مالي وأنا مالي بيه) الأمر هنا ليس ندما على الإفتتان أو فتنة به على العكس فقد طرز الشاعر عبيد عبد الرحمن هذا الإفتتان بشكل مذهل فهو يفسر ويدعونا لنشاركه هذه الحيرة ولكي نتملى هذا السحر الفاتن يفاجئنا الكاشف لنشهد معه ونشهد له ببراعة التعبير (فتنت بى حسنو البديع) فهو إفتتان بجمال طاغٍ فسرته لازمة موسيقية قل من يعزفها دون أن يخطئ أو يتردد ألا يصيبنا الجمال بحالة من الأنبهار لا يمكن وصفها حتى بالكلمات ولكن الكاشف هنا تجاوز المنظور الشعري المدرك إلى ما ورائية المعنى ويواصل الكاشف يردد بنفس الهدوء الأسيان (عشقتو لى طبعو الوديع) فهو إذن عشق لمحبوب فاتن وديع وبنفس الفهم صاغ الكاشف لازمة مختلفة ويواصل الكاشف اعترافته (حبيتولى أدبو الرفيع) ولازمة أخرى تتقافز مرحاً وفرحاً ولكن تدخل آهة الكاشف ليقول بصوت عالٍ مستنجداً بنا .... لكني برغم كل هذا الإفتتان والعشق والحب فقد اصابتني نظراته في مقتل مثلما أصبت غيري من المفتونين به وهو سادر لايهمه شئ (آهـ صرعت بى لحظو المريع ... بى لحظو يا ما كم صريع) (وحبيبنا تايه ماعليه) و (فتنت بيه) وهكذا تمضى الأغنية على نفس النهج في المقطعين التاليين ويختمهما بعد كل ذلك التباهي الشاكي مرددا (آهـ خلقوهو زول وكسوهو نور .... من شدة الحيا والشعور) (زادوهو زوق وكسوهو تيه) و (فتنت بيه) ثم يختم الكوبليه الثالث الأخير معلناً ولاء الحب للمحبوب أمام الدنيا كلها (آهـ قول للعزول فيق واستريح ... آويتو في قلبي الجريح) =(مادام بريدو وبخاف عليه) فتنت بيه فتنت بيه فتنت بيه ..... للأبد رحم الله الشاعر عبيد عبد الرحمن والفنان المبدع المجدد شيخنا وأستاذنا إبراهيم الكاشف
سلام الزمن الجميل
في عبقرية الكاشف و فُتنت بيه ..
كتب د. انس العاقب مقال جميل بصحيفة الرائد :
وبهذا المفهوم البسيط العميق سيظل الكاشف في مقدمة مجددي حركة الغناء الذين فتحوا الباب واسعاً للأغنية الإذاعية الأمدرمانية (الحضرية) لكي ترتاد أفقاً جديداً منطلقاً ومتأثراً بتراث سوداني ذي خصائص شعبية ودينية وتقليدية آخذاً بالقوالب الشكلية والأساليب التي ظلت معروفة ومتوارثة ومتداولة منذ نشأة دولة الفونج في مطلع القرن السادس عشر.
إبراهيم الكاشف كأي فنان مبدع حفظ التراث الغنائي وتتلمذ عليه واستوعبه ثم قدم نفسه للناس بأشكال وأطوار مختلفة بدأت من أول السلم إلى أن صعد للقمة فصار رقماً مهماً جداً في حركة الغناء وتاريخه منذ اربعينات القرن الماضي ومايزال بل ظلت ارتال من مغني الجيل الحديث يتتلمذون على مدرسته في التلحين والغناء .
في هذه المقالة نكمل حديثنا عن أغنية (فتنت بيه) التي كتبها المرحوم الشاعر الفذ عبيد عبدالرحمن وسجلها الكاشف للإذاعة بتاريخ 12/7 /1958 أي ما يزيد قليلاً عن نصف قرن أي أن عدداً مقدراً من مطربي وملحني الراهن إما لم يولدوا بعد أو كانوا صبية صغاراً أو من جيلنا الذي كان يتلمس طريقه وانطلق في الستينات .(فتنت بيه) أغنية وضعت نفسها في مصاف الخوالد التي ابتدرها خليل فرح بـ(عزة) لما اتسمت به من جرأة وخيال وعمق في التعبير اللحني والموسيقي ، فإذا كانت (عزة) قد بشرت بالمدرسة الفنية الحديثة وهي تزف نفسها مع ميلاد أغنية (الحقيبة) وتتجاوزها في بنائية جديدة لا يمكن مقارنتها إلا بمدحة (شوقك شوى الضمير) لحاج الماحي رضي الله عنه وأرضاه التي أجزم واثقاً بأن حاج الماحي بهذه المدحة سبق حركة الغناء بقرن ونصف وأتمنى أن تتاح لنا الظروف لتحليل هذه المدحة الجبارة .
وبمقارنة مع (عزة) التي بشرت بالتجديد وقدمت لمرحلة متقدمة عن أغنية (الحقيبه) فإن أغنية(فتنت بيه) جاءت في مقدمة الأغنيات النادرة جداً التي اقتحم بها الكاشف الحاضر والمستقبل .
أغنية (فتنت بيه) للشاعر عبيد عبد الرحمن جاءت جذابة وفاتنة ومعبرة ولا أعتقد بل أكاد أجزم أن الأغنية السودانية قد عرفت مثل هذا الأسلوب في التفكير الموسيقي الذي أنتهجه الكاشف (الأمي) لأن الكاشف في تقديري يتمتع بمقدرة هندسية عالية في تشكيل الجمل الموسيقية بتفاصيل منمنة مفعمة بالحيوية والعمق لكأن النغمات عنده أحرف تشكل كلمات وجمل ذات دلالات ومعانٍ بل لربما إجادة الكاشف لصنعته في التفكير والتركيز مع الخيال لوضع تصميمات الأثاثات ثم تنفيذها ساعد الكاشف إلى حد ما في عملية التلحين من حين لآخر ذلك لأن الكاشف كما حكى لى عنه أستاذنا الراحل محمود أبو العزائم بان الكاشف كانت عملية التلحين عنده كأنه يستخرج الألحان الكامنة في دواخله او لربما كانت تتنزل عليه مرة واحدة وهذا هو سر عبقريته ولو لا ذلك كيف أستطاع هذا الرجل (الأمي) أن يؤلف المقدمة الموسيقية لأغنية (فتنت بيه) التي جاءت في جزئن ربما قد يعجزني التعبير عنهما بجلاء دون الإشارة لمسار النوتات الموسيقية بالتدوين الذي سيكشف عن عبقرية في الكيفية التي مكنته من أن يتجاوز ليس فقط التفكير الخماسي ولكن إضغام النفس السباعي في ثنايا الخماسي ولولا أن يقال عني تجوزت الشطط لقلت أن سلم اغنية (فتنت بيه) يتعين على الباحث والمنظرين أن يطلق عليه السلم (الكاشفي) بحسبان أن لا أحد لحن بهذا الأسلوب المعقد البديع لأن الكاشف أراد أن يطرق دروباً جديدة في ساحة الغناء التي كانت تحفل وتضج بتنافس لم يسبق له مثيل ..
المقدمة الموسيقية حملت ثلاث أفكار فى جملتين موسيقيتين ....
الجزء الأول إيقاعي سريع يحمل تمرداً واضحاً على الخماسية اللحنية التقليدية Pentatonic Tonality)) ثم اندماجاً بينهما في هندسة غريبة لكنها منطقية تماماً وكأن الكاشف هنا في هذه الجملة الموسيقية المكنة من عبارتين اراد قصدا أن يعبر عن قلق المبدع المفتتن بالجمال والمسحور بالإفتتان وأن إدخال نغمات مضافة للخماسي تزيد التعبير غموضاً وسحراً ثم تأتي بالفكرة الثالثة في عبارة غنائية قصيرة قائلة (كان مالي وأنا مالي بيه) ليدخل صوت الكاشف متسائلاً(فتنت بيه) واللازمة ترد التساؤل لماذا هذا الإفتتان (عشقت ليه) ولازمة مختلفه تؤكد ذلك التساؤل عشقاً وأخيراً يستسلم الكاشف ولا يدري ماذا يقول سوى ما اوحت به المقدمة الموسيقية
(كان مالي وأنا مالي بيه) في أسى شفيف ليردد معه الكورس مواسياً
(كان مالي وأنا مالي بيه)
الأمر هنا ليس ندما على الإفتتان أو فتنة به على العكس فقد طرز الشاعر عبيد عبد الرحمن هذا الإفتتان بشكل مذهل فهو يفسر ويدعونا لنشاركه هذه الحيرة ولكي نتملى هذا السحر الفاتن يفاجئنا الكاشف لنشهد معه ونشهد له ببراعة التعبير
(فتنت بى حسنو البديع) فهو إفتتان بجمال طاغٍ فسرته لازمة موسيقية قل من يعزفها دون أن يخطئ أو يتردد ألا يصيبنا الجمال بحالة من الأنبهار لا يمكن وصفها حتى بالكلمات ولكن الكاشف هنا تجاوز المنظور الشعري المدرك إلى ما ورائية المعنى ويواصل الكاشف يردد بنفس الهدوء الأسيان (عشقتو لى طبعو الوديع) فهو إذن عشق لمحبوب فاتن وديع وبنفس الفهم صاغ الكاشف لازمة مختلفة ويواصل الكاشف اعترافته (حبيتولى أدبو الرفيع) ولازمة أخرى تتقافز مرحاً وفرحاً ولكن تدخل آهة الكاشف ليقول بصوت عالٍ مستنجداً بنا .... لكني برغم كل هذا الإفتتان والعشق والحب فقد اصابتني نظراته في مقتل
مثلما أصبت غيري من المفتونين به وهو سادر لايهمه شئ
(آهـ صرعت بى لحظو المريع ... بى لحظو يا ما كم صريع)
(وحبيبنا تايه ماعليه) و (فتنت بيه)
وهكذا تمضى الأغنية على نفس النهج في المقطعين التاليين ويختمهما بعد كل ذلك التباهي الشاكي مرددا
(آهـ خلقوهو زول وكسوهو نور .... من شدة الحيا والشعور)
(زادوهو زوق وكسوهو تيه) و (فتنت بيه)
ثم يختم الكوبليه الثالث الأخير معلناً ولاء الحب للمحبوب أمام الدنيا كلها
(آهـ قول للعزول فيق واستريح ... آويتو في قلبي الجريح)
=(مادام بريدو وبخاف عليه) فتنت بيه
فتنت بيه فتنت بيه ..... للأبد
رحم الله الشاعر عبيد عبد الرحمن والفنان المبدع المجدد شيخنا وأستاذنا إبراهيم الكاشف
فعلا فنان بمعنى الكلمة. وأغانيه مهضومة وحلوة. رحمة الله عليه