ملخص المحاضرة: مدخل في بيان أسباب الضلال عن الحق يتبادر إلى الذهن أن سبب ضلال الناس وانحرافهم: «عدم علمهم بالحق»، وهذا أمر لا شكّ في وجوده، لكنّه ليس هو السبب الوحيد، فالسبب الأكبر ليس في عدم المعرفة لكنه راجع إلى الانقياد والالتزام والتعظيم، وهنا تأتي الأمراض والأهواء، وعند البحث في كتاب الله عن سبب ضلال الناس نجد أسبابًا عدّة، منها: أوّلًا: الحسد، ودليل ذلك: قول الله تعالى: ﴿وَدَّ كَثِیرࣱ مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَـٰبِ لَوۡ یَرُدُّونَكُم مِّنۢ بَعۡدِ إِیمَـٰنِكُمۡ كُفَّارًا حَسَدࣰا مِّنۡ عِندِ أَنفُسِهِم مِّنۢ بَعۡدِ مَا تَبَیَّنَ لَهُمُ ٱلۡحَقُّۖ﴾ [البقرة ١٠٩] ثانيًا: التعصّب للآباء، ودليل ذلك: قول الله تعالى: ﴿وَكَذَ ٰلِكَ مَاۤ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ فِی قَرۡیَةࣲ مِّن نَّذِیرٍ إِلَّا قَالَ مُتۡرَفُوهَاۤ إِنَّا وَجَدۡنَاۤ ءَابَاۤءَنَا عَلَىٰۤ أُمَّةࣲ وَإِنَّا عَلَىٰۤ ءَاثَـٰرِهِم مُّقۡتَدُونَ﴾ ثالثًا: حب الدنيا، ودليل ذلك: قول الله تعالى: ﴿ذَ ٰلِكَ بِأَنَّهُمُ ٱسۡتَحَبُّوا۟ ٱلۡحَیَوٰةَ ٱلدُّنۡیَا عَلَى ٱلۡـَٔاخِرَةِ وَأَنَّ ٱللَّهَ لَا یَهۡدِی ٱلۡقَوۡمَ ٱلۡكَـٰفِرِینَ﴾ [النحل ١٠٧] رابعًا: الإعراض، ودليل ذلك: قول الله تعالى: ﴿وَٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ عَمَّاۤ أُنذِرُوا۟ مُعۡرِضُونَ﴾ [الأحقاف ٣] خامسًا: الغفلة، ودليل ذلك: قول الله تعالى: ﴿یَعۡلَمُونَ ظَـٰهِرࣰا مِّنَ ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَا وَهُمۡ عَنِ ٱلۡـَٔاخِرَةِ هُمۡ غَـٰفِلُونَ﴾ [الروم ٧] سادسًا: الكبر، ودليل ذلك: قول الله تعالى: ﴿وَقَالُوا۟ لَوۡلَا نُزِّلَ هَـٰذَا ٱلۡقُرۡءَانُ عَلَىٰ رَجُلࣲ مِّنَ ٱلۡقَرۡیَتَیۡنِ عَظِیمٍ﴾ [الزخرف ٣١]، وقال الله تعالى: ﴿وَقَالَ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ لِلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَوۡ كَانَ خَیۡرࣰا مَّا سَبَقُونَاۤ إِلَیۡهِۚ﴾ [الأحقاف ١١] سابعًا: العوض الدنيوي، ودليل ذلك: قول الله تعالى: ﴿فَوَیۡلࣱ لِّلَّذِینَ یَكۡتُبُونَ ٱلۡكِتَـٰبَ بِأَیۡدِیهِمۡ ثُمَّ یَقُولُونَ هَـٰذَا مِنۡ عِندِ ٱللَّهِ لِیَشۡتَرُوا۟ بِهِۦ ثَمَنࣰا قَلِیلࣰاۖ فَوَیۡلࣱ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتۡ أَیۡدِیهِمۡ وَوَیۡلࣱ لَّهُم مِّمَّا یَكۡسِبُونَ﴾ [البقرة ٧٩] ثامنًا: التحريف، ودليل ذلك: قول الله تعالى: ﴿مِّنَ ٱلَّذِینَ هَادُوا۟ یُحَرِّفُونَ ٱلۡكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِۦ﴾ [النساء ٤٦] وهذا يدل على أنّ الانحراف ليس منحصرًا بالجانب العلمي، وإنما قد يكون لأسباب نفسية، ومن هنا يتبيّن الفرق بين منهجين في التعامل مع المذاهب والشبهات: أحدهما: منهج مَن يخاف على إيمانه ويدعو الله بالثبات على الحقّ، ويحرص على اجتناب الشبهات. والآخر: هو المنهج القائل: قد رزقك الله عقلًا وفهمًا؛ فلا خوف عليك بعد هذا. وقد قال الله تعالى لنبيّه - صلى الله عليه وسلم -: ﴿وَلَوۡلَاۤ أَن ثَبَّتۡنَـٰكَ لَقَدۡ كِدتَّ تَرۡكَنُ إِلَیۡهِمۡ شَیۡـࣰٔا قَلِیلًا﴾ [الإسراء ٧٤]. قال جان جاك روسو عن الفلاسفة: «ثم تبيّن لي أن أصل هذا التباين الهائل في تصوّراتهم يعود إلى عجز الإنسان أوّلًا، وإلى تكبّره ثانيًا»، وقال: «حتى ولو كان في وسع الفلاسفة أن يكتشفوا الحقيقة؛ مَن منهم يهتمّ بها؟ كلّ واحد منهم يعلم أن مقولته ليست أوثق تأصيلًا من غيرها، لكنّه يتشبّث بها لأنّها من إبداعه» العنصر الأول: أهمية دراسة المذاهب الفكرية المعاصرة أوّلًا: هي جزء أساسي من الدراسة الشرعية؛ لأنها مذاهب تؤثّر في اعتقادات الناس وتصوّراتهم، ولا يمكن أن يُبيَّن ما فيها من ضلال إلا بدراستها. ثانيًا: الفارق الكبير بين عناية الدراسات الشرعية المعاصرة بالمذاهب الفكرية المعاصرة لها، وعناية علماء الإسلام المتقدمين بالأفكار المنحرفة في زمانهم. مثال ذلك: معرفة شيخ الإسلام ابن تيمية الدقيقة بالأقوال التفصيلية للفلاسفة والمبتدعة، بينما تجد في زماننا كثيرًا من طلاب العلم يُدركون تفاصيل مذهب المعتزلة - مثلًا - مع جهلهم بأصول المذاهب الفكرية المعاصرة. ثالثًا: اتّساع التأثّر بهذه الأفكار والمذاهب، وتأثيرها على الأحكام الشرعية، واحتكاكها بقضايا الحياة، بما يتطلّب ضرورة العناية المفصّلة بها. رابعًا: إثارتها لأسئلة تتطلب إجابات شرعية، لا يمكن تقديمها وفق رؤية شرعية صحيحة دون الإلمام بالمذاهب الباطلة. خامسًا: إبراز قوة منهج الإسلام، وإيجابية أحكامه، وعقلانية أصوله وفروعه، وهذا لا يتجلّى عند المقارنة. سادسًا: خطورة التناول السلبي للقضايا الفكرية المعاصرة، وهذا التناول له آثار، منها: «رفض الحق»، أو «قبول الباطل»، أو «التقصير في بيان الباطل ونصرة الحق»، أو «الانعزال عن المواجهة». العنصر الثاني: ظروف تكوّن ونشأة المذاهب الفكرية المعاصرة المعتاد في دراسة المذاهب الفكرية أن تُدرس مذهبًا مذهبًا، وهي طريقة مفيدة، لكنّ الأفضل منها: دراسة التاريخ الذي شكّل المذاهب كلّها، والتاريخ الأوروبي هو الذي شكّل المذاهب الفكرية المعاصرة. س: ما ميزة الدراسة التاريخية للأفكار؟ الجواب: تجنّب تسطيح القضايا الفكرية بتفسيرها ببعض جوانب إيجابية عامة لا تعبّر عن أصولها الفكريّة المميزة، ومن أمثلة ذلك: أ- القومية = حب الأرض. ب- الليبرالية = الحريّة. جـ- العلمانية = منع تسلّط رجال الدين. د- العقلانية = استعمال العقل. هـ- الديمقراطية = الشورى. و- الإنسانية = حب الخير للناس. ز- التنوير = الانفتاح والاستفادة مما عند الآخرين. فهذه جملة من التفسيرات السطحية للأفكار المعاصرة، وهذه التفسيرات أشبه باللغة الدعائية الإعلامية التسويقية، وليست لغة علمية. التتمة في الرد على هذا التعليق 👇
إشكالية المركزية الأوروبية عند الغربيين مشكلة وخاصة في كتبهم التي تتحدث عن الأفكار، وهي: اعتقادهم بأن العقلية الغربية هي محور الكون، وأنّ ما عداها فهو على الهامش، فالأوروبي يؤثّر ولا يتأثّر. واللوم هنا لا ينصبّ عليهم، وإنما على مَن يتقبّل هذه العقلية، ويفكّر بنفس المنظار الغربي، ومن أمثلة هذا التأثر: أ- عند الحديث عن أوّل نظام بدأ يحفظ حقوق الناس من الظلم والتعدي؛ نجد الغربي يفكر في اليونان وفلاسفته، ثم ينتقل إلى العصور الوسطى، ثم عصر النهضة، ثم الزمان المعاصر، فهذا تاريخ حفظ حقوق الإنسان في العالم من منظار الغربي، والعجيب أن يأتي مسلم فيتكلّم بنفس الطريقة، و كأنه لا يملك حضارة إسلامية، ولا رسالة جاء بها محمد - صلى الله عليه وسلم -!. ب- من العبارات الشائعة: «فلان يريد إرجاعنا للعصور الوسطى»، و«العصور الوسطى» هي تعبير عن زمن في التاريخ الأوروبي، وهذا المتأثر يُسمّي العصور التي من زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى نهاية الدولة العباسية بــ«العصور الوسطى» مع أنّ هذه العصور هي العصور الزاهية للحضارة الإسلامية، لكنّه يُسمّيها بذلك؛ لأنه ينظر من المنظار الغربي. س: ما هو المرتكز للانطلاق الصحيح في التاريخ؟ الجواب: المحور الأساس للانطلاق الصحيح من التاريخ ينبغي أن يكون مرتكزًا على سيرة الأنبياء ودعواتهم، ولا يُمكن أن تفهم التاريخ وأنت مغيّب الذهن عن دعوة الأنبياء. أقسام العصور الرئيسة في التاريخ الأوروبي الأول: العصر القديم. يبدأ من عصر اليونان، ويستمر حتى سقوط الامبراطورية الرومانية على أيدي القبائل الجرمانية في القرن الخامس الميلادي، وهذا يعني أنه يمتد ما يقرب من ألف وثلاثمائة سنة. الثاني: العصر الوسيط. يبدأ من سقوط الامبراطورية الرومانية، ويستمر حتى نهاية القرن الثالث عشر أو الرابع عشر ميلادي. الثالث: العصر الحديث. يبدأ من نهاية القرون الوسطى حتى يومنا هذا، وهو يقسم لأربعة أقسام: «عصر النهضة»، و«عصر التنوير»، و«عصر الثورات»، و«التاريخ المعاصر». العصر القديم ابتداء من القرن الثامن إلى القرن الخامس قبل الميلاد، وهو عصر يعتزّ به الأوروبيون، ويرون أن رؤيتهم الحالية هي مُطوّرة ومكمّلة لها؛ فيشعرون بالانتماء لهذا العصر. مميزات العصر القديم: أوّلًا: العلوم الطبيعية. ثانيًا: الفلسفة. ثالثًا: العمران. رابعًا: الشعر. خامسًا: تطبيقات قديمة للديمقراطية، لكنّها تختلف عن الديمقراطية المعاصرة. حكم الرومان: دخلت اليونان في حكم الإمبراطورية الرومانية في منتصف القرن الثاني قبل الميلاد، وبعد مائتي سنة تقريبًا جاء المسيح - عليه السلام -، واضطهدت الامبراطوريةُ الرومانية أتباع المسيح، إلى أن جاء القرن الرابع الميلادي ودخل (قسطنطين الأول) في المسيحية، وأعلن المسيحية دينا رسميًا في المجمع الكنسي المشهور سنة (325)، لكن بعد أن أُدخل في المسيحية بعض العقائد الوثنية الموروثة من اليونان. وظلّت هذه الإمبراطورية تضعف تدريجيًا إلى أن سقطت في القرن الخامس، ودخلت أوروبا في العصر الوسيط. القرون الوسطى استمر هذا العصر حتى بداية عصر النهضة، وهو يُشكّل في العقل الأوروبي رمزًا للتخلّف، والضعف، وهيمنة رجال الدين، وقمع الأفكار والحرّيات، وفي هذا العصر وقع سلطان الكنيسة العميق على الناس؛ فأصبح لها حكم وسطوة على الجانب السياسي، وهذه السطوة ليست مستمرة طوال العصر فهي تمر بتقلّبات، فتارة تقوى فتكون أقوى من سطوة الملوك والأمراء، وتارة تنافسهم، وتارة تكون تابعة لهم. مثال على سطوة الكنيسة: اختصم الملك هنري الرابع مع البابا غريغوري السابع، فطرده البابا وحرمه من الكنيسة؛ فاجتمع أمراء هذا الملك، واتّفقوا على أنّ هذا الملك إذا لم يُرضِ البابا ويُعلن توبته فإن الملك سيُنزع من صلاحياته، فاضطر الملك أن يحجّ حافي القدمين إلى مكان البابا، وحبسه البابا عند أسوار الكنيسة أيامًا، قاسى فيها الجوع والبرد والذل؛ حتى عفا عنه. مظاهرٌ للانحراف في القرون الوسطى الأول: طغيان الكنيسة، ويتجلى في صور: أ- الطغيان الديني، وذلك باحتكار الكتاب المقدّس، فلا أحد يقرأ الكتاب ويفهمه إلّا هم، وبإمكانهم تغيير العقائد، وحرمان الناس من الجنة، وتوزيع صكوك الغفران. ب- الطغيان السياسي، بالظلم والقتل والتعدي. جـ- الطغيان المالي، وذلك بأخذ الثروات الفاحشة من الناس،وكان عند الناس حالة منافرة بين ما يعلمونه من ذمّ المسيحية للمال وتعظيم للزهد في الدنيا، وبين ما يرونه من تقلب القساوسة والباباوات في الخيرات. د- الصراع مع العلم، وقد نجحت محكمة التفتيش في تعطيل البحث العلمي عن إيطاليا لقرون. الثاني: الحكم نيابة عن الله (الحكم الثيوقراطي). والمراد به: أن الكنيسة تحكم هي، أو من تُنوب نيابة عن الله تعالى، فالحاكم لا يمثّل اجتهاداته وأعماله، وإنّما يُمثّل الله تعالى، فالاعتراض عليه أو على سلطته هو إنكار على الله تعالى. وفي التاريخ الإسلامي لا يوجد هذا الحكم، ويستثنى من ذلك حُكم النبي - صلى الله عليه وسلم - فيحتاج إلى تفصيل خاص، أما غيره فإنه لا يُعرف في التاريخ الإسلامي، ومن العجيب أن بعض المسلمين يُقسّم الأنظمة في التاريخ الإسلامي إلى قسمين: (أنظمة ثيوقراطية)، و(أنظمة غير ثيوقراطية)، والإشكالية هنا في الانبهار والانهزام أمام الثقافة الغربية، فإذا كان عند الغرب (ثيوقراطية) فينبغي أن يكون عندنا - بنظره -، نفس ما عندهم، ثم يبحث في التاريخ عن ذلك،والمثل يقول: (إذا كنت مطرقة سترى كل الناس مسامير). الثالث: الإقطاع. والمراد به: أنّ الملك يوزّع الأراضي على أمراء، ونبلاء، أو أمراء حرب، والأمراء يدفعون ضربية، ويأخذون ضريبة من الناس، ويكون الملك - أحيانًا - قويًا فيأخذ ضريبة مباشرة من الناس، وأحيانًا يحتاج إلى أمراء، ويحتاج الأمراء - أحيانًا - إلى أمراء أصغر منهم، فتصبح بذلك المملكة مقطّعة إلى أحياء فيها أُناس يعملون هم أشبه بالعبيد، وعندهم سيد يدينون له بالولاء والطاعة، وفي هذا ظلم وطغيان على الناس العاملين؛ لأنهم يعملون ليل نهار لسدّ الضرائب التي فُرضت عليهم، فعاش الناس طبقتين: أ- طبقة الأمراء والنبلاء. ب- طبقة الإقطاعيين العاملين. الرابع: محاكم التفتيش. والمراد به: ملاحقة أيّ رؤية أو شخصية تُعارض الكنيسة في فهمها. هذه المحاكم نشأت في القرن الثالث عشر الميلادي تقريبًا، وقويت أكثر في إسبانيا بعدما وقعت في حكم النصارى، وأحدثت هذه المحاكم قمعًا شديدًا للناس.
العصر الحديث أ- عصر النهضة في هذا العصر نشأت سلطة الملوك ذات السلطات الواسعة المستبدة، التي تمتلك حقًا إلهيًا لها بالحكم، فبعد أن ضعفت سلطة الكنيسة تحول السلطة إلى سلطة الملوك، وهذا الملك تكون له سطوة وقوّة، ولا يكون تابعًا للكنيسة، بل العكس، والاختلافات الدينية والاضطرابات الأمنية التي كانت في العصر الوسيط جعلت الناس يشعرون أن هذا خلاص لهم، فبدأ ما يُسمّى بــ«المُلك ذات السلطات الواسعة»، وهو: الملك الذي لا قيود على سلطته وله حقّ إلهي، فانتقل الحقّ الإلهي من الكنيسة إليه، وتجلى الحكم المستبد أكثر من العصور الوسطى، وأصبحت الملكية هي النمط السائد في أوروبا الغربية. التنظير لسلطة الحاكم: تتأثر المذاهب الفكرية بزمانها وعصرها، فالفيلسوف يكتب بحسب تأثّره بعصره، وفي هذا العصر بدأ عدد من الفلاسفة يبررون لسلطة الحاكم، ومن أشهرهم: «توماس هوبس»، و«جان بودان»، و«ميكافيلّي». الجانب العلمي والديني في عصر النهضة: أوّلًا: لم يتميز هذا العصر في جوانب العلم والاختراع، ولا في جوانب البحث والفلسفة، والغريب أن في التاريخ الأوروبي إشادة بهذا العصر، مع أن أواخر العصر الذي قبله أحسن منه على المستوى العلمي والتقني، لكن طبيعة الاعتزاز بالتاريخ، وجعل القضية مبنية على التطوّر؛ يجعلهم يقولون ذلك. ثانيًا: بقي الدين عميقًا في هذا العصر فلم يحدث تحوّل عنه، قال رونالد سترومبرج: « كان من المستحيل على أيّ مفكر أو أديب الخروج عن نطاق الدين؛ لأنه كان يحتوي الثقافة بأكملها، فالدين كان يومذاك يحتوي الثقافة بأكملها…، ولقد كان بمستطاع المرء حينذاك أن يتلوّن بلون أو آخر من ألوان المسيحية…، ولكن لم يكن بتاتًا من المعقول أن يكون مناهضًا للمسيحية أو غير مسيحي» ، وقال: «لم يُوضع أيّ أساس فكري لمناهضة المسيحية قبل القرن السابع عشر». الاستكشافات في هذا العصر: في هذا العصر حدثت استكشافات ضخمة؛ كاكتشاف الأمريكيتين التي حوّلت مسار الحضارة الغربية، وجرى بعده توسع اقتصادي واحتلال لدول العالم. الصراعات العنيفة: دخلت أوروبا في صراعات عنيفة ممتدة خلال القرن السابع عشر والثامن عشر؛ كحرب الثلاثين عامًا بدءًا من (1618)، وكان لذلك أثر في إحداث تغيير سكاني كبير في ألمانيا. حركة الإصلاح الديني هذا الحدث هو أهم حدث في التاريخ الأوروبي كلّه، ففي عام (1517) علق الأستاذ في علم اللاهوت مارتن لوثر خمسة وتسعين اعتراضًا على باب الكنيسة، وهو كان مسيحيًا متدينًا، لكنه كان يعترض على سلطة الكنيسة المطلقة، وصكوك الغفران، وحرمان الناس من فهمهم في حقّ الدين، وهذا الأمر مع كونه بديهيًا عندنا في الإسلام إلا أنه في أوروبا كان كالزلزال على الحضارة الغربية؛ لأنها فككت عرش الكنيسة. هذه الحادثة لم تكن تشغل إلّا فئة قليلة من المتخصصين، لكن الكنيسة حاكمته، وأصر على آرائه في المحاكمة، وكان يقول: «سلطان الكتاب المقدس فوق سلطان الكنيسة»، وأمرت الكنيسة بنفيه، فاحتضنه أحد الأمراء، وتبناه الملك الألماني؛ لأن الأمراء الألمان وجدوا هذه فرصة ذهبية؛ لأنهم بها يستطيعون السيطرة على كنائسهم دون رجوعها للكنيسة الكبرى، وبذلك نشأ المذهب البروتستانتي الجديد ضد المذهب الكاثوليكي، ونشأت حروب بين الطائفتين استمرت قرنين، قُتل فيها أعداد هائلة، ونشأت مذبحة عظيمة في التاريخ الأوروبي بسبب الحروب الدينية. تشجيع لوثر للقمع الوحشي على الفلاحين: شجع لوثر إجراءات القمع الوحشية على الفلاحين التي مارسها الألمان، والتي جعلتهم أكثر عجزًا وهوانًا عن أية طبقة اجتماعية أخرى في وسط وغرب أوروبا دور كالفن في تحو يل أفكار لوثر إلى جانب عملي: بعد لوثر جاء شخص أخطر منه، وهو: «كالفن» (ت: 1564م)، وقام بتحويل ما نظّره لوثر إلى جانب عملي، وكان تأثير لوثر في ألمانيا، بينما كالفن وسع الرقعة، وأثّر في فرنسا وما حولها، فأسس كالفن كنيسةً أصبحت تقوم بنفس الدور الذي تقوم به الكنيسة الكاثوليكية. القومية في هذا العصر بدأ تشكّل بدايات الفكرة القومية، وقبل ذلك كانت الكنيسة تحكم أوروبا كلّها باعتبار الدين، ومع بداية القرن الثامن عشر بدأت تظهر هذه الفكرة بوضوح، واكتمل نمو الدولة القومية مع الثورة الفرنسية، ثم تتابعت الدول القومية بعد ذلك، وبلغت أشدّها مع الحروب العالمية؛ لتكون الغلبة أخيرًا للدولة الوطنية التي تجمع قوميات. ب- عصر التنوير الحقبة الزمنية: كان هذا العصر بين القرنين السابع عشر والثامن عشر - تقريبًا - التمرد على النصرانية في عصر التنوير: كان الدين هو الاهتمام الرئيسي لمعظم الناس في معظم الأزمان، ولكن عصر التنوير ثار على تلك العادة، حيث بدأ التمرد على الإيمان بالنصرانية، وبرز المذهب الربوبي، وهو: المذهب الذي يؤمن بالله وينكر النبوات، وقد هاجموا الأسفار المقدسة، وأظهروا تناقضتها، ولم يقبلوها لكثرة الانحرافات الكنسية في أوروبا، وهم يعتقدون أن وجود الله ضروري؛ لحفظ الأخلاق وتصورات الناس؛ لذلك صاروا يبحثون عن دين سهل يلبي الحاجة الفطرية، مع تحييد العناصر المثيرة للاختلاف؛ لأن الحروب الدينية أحدث أزمة عميقة جدًا، فزعموا أنّ الحل في الدين الربوبي الذي أتوا به، وهم بهذا لم يتلقوا دين رب العالمين، وإنما اخترعوا دينًا جديدًا، قال جان جاك روسو: «الواجب أن تكون عقائد الدين المدني بسيطة وقليلة العدد، ومنطوقًا بها بدقة، بلا تفاسير ولا شروح» حل مشكلة النظام السياسي: ينقل الشيخ عن أحدهم أنه قال: «لقد أصبح من الواجب فصل دين الإنسان عن دين المواطن، أو الدين المدني، لقد كان الأمر يتعلق بإيجاد صيغة تمتلك كل مزايا الدين القديم، بدون الإساءة للحرية الداخلية للإنسان وللحقيقة، وبدون فرض مضمون عقائدي دوغمائي بكل معنى الكلمة، يولد منه عدم التسامح؛ لأنه لم يحدث مطلقًا أن أُسست دولة لم يستخدم الدين كقاعدة لها»، فإلى هذه اللحظة لا غنى لهم عن الدين، لكنهم يخترعون الدين الذي يناسبهم.
الإلحاد في عصر التنوير: هناك ثلاثة شواهد من عصر التنوير تدل على حالة الإلحاد في ذلك العصر: الأول: قال سترومبرج: «كتب شخص اسمه (بياربايل) أن الملحد قد يكون مواطنًا صالحًا، فلم يتفق معه إلا قلة، واعتبره أكثر الناس فضيحة؛ لأن المسيحية كانت دعامة أساسية للأخلاق» الثاني: حكى المؤرخ الفرنسي "توكفيل" قصة شاهد في قضية قال أمام القاضي إنه لا يؤمن بوجود الله، فرفض القاضي شهادته على أساس أن إلحاده يهدم كل ثقة بكلامه. الثالث: قال جون لوك: «لا يجوز أبدًا التسامح مع من ينكرون وجود الله؛ ذلك أن الوعود والمواثيق والأقسام التي هي روابط المجتمع الإنساني لا حرمة لها ولا اعتبار عند الملحد؛ ذلك أن استبعاد الله - حتى ولو كان بالفكر - يحلّ كلّ شيء، وفضلًا عن ذلك فإنه بالإلحاد يقوض ويحطم كل دين، لا يمكنه باسم الدين أن يطالب بحق التسامح معه». أثر المناظرات والخصومات على الناس: كثرة الخصومات والمناظرات بين القساوسة في المسائل الدينية؛ جعلت الناس يتجاهلون المسائل الدينية، وهذه قضية مهمة ينبغي استحضارها في التعاطي مع الشبهات والإشكالات، فإن ليس من المنهج الصحيح: كثرة الجدل، وإنما بيان الحق بأدلته هو المنهج الصحيح. رجال الدين في فرنسا كان "رجال الدين" جزءًا من الطبقة الحاكمة في فرنسا، ولهم امتيازات، فكان التشدد ضد الانحرافات الدينية أشد من بريطانيا، ولهذا كانت الثورة ضدهم أشدّ، وقد كانت بريطانيا سبقت فرنسا في الحريات والتسامح الديني، فالعلاقة ضد الدين لم تكن عنيفة كما في فرنسا. ب- عصر الثورات المدة الزمنية لهذا العصر: من (1775) مع الثورة الأمريكية، ومرورًا بالثورة الفرنسية (1789)، ثم الثورة الفرنسية (1848) حتى صارت الثورات من الأمور الشائعة. وقد كان عدد النبلاء في فرنسا يُقدّر قبل الثورة بــ(1.5%) من السكان، وهؤلاء يمتلكون ثروات ضخمة جدًا، وقد كان هذا التفاوت الطبقي الكبير من أسباب الثورة الفرنسية. الانزلاق نحو الشبهات بعد إبعاد الدين: قال سترومبرج: «إن المجتمع الارستقراطي الباحث عن اللذة في القرن الثامن عشر بعد أن تحرر من المخاوف ومن العقاب الإلهي وتغذى على روايات العشق، ولوحاته الزيتية؛ انغمس في شهواته انغماسًا لم تشهد الأزمان الماضية له مثيلًا» ، وهذا يكشف سذاجة من يقول: «الحرية تقوي التدين». وفي تلك المرحلة كان الدين ما زال ظاهرًا، وقد كان حاكم فرنسا بونابرت مُصابًا بالغبطة بصدمة الناس بالحديث في مجالسهم الخاصة عن إلحاده، لكنه كان يؤمن أن الدين هو القادر على توفير الدعائم الأساسية للدولة؛ لذلك لم يكن يسمح أو يتسامح مع أيّ خروج علني على الدين. صعود البرجوازية وتأثيرها: البرجوازية: طبقة بين «الإرستقراطيين» و«الإقطاعيين». كان السائد في القرون الوسطى وجود طبقتين: «طبقة النبلاء» و«طبقة العمال»، وبعد القرن الخامس عشر ازدادت حركة التجارة، فنشأت طبقة جديدة بين النبلاء والعمال؛ كأن يكون الإنسان تاجرًا، أو موظفًا في مصنع، أو كاتبًا، أو روائيًا، أو مهندسًا، ونحو ذلك، هذه الطبقة بدأت تعمل، وصار لها رؤوس أموال، وبدأت تفكك النظام الإقطاعي، وبدأت هذه الطبقة بالضغط على الملوك والأمراء لمراعاة وضعهم، ونتج عن هذا الخلاف «الرأسمالية». الرأسمالية: الرأسمالية هي أهم تيار فكري اقتصادي حصل في تاريخنا المعاصر، وسُمي بذلك لارتباطه بحرية رأس المال في التحرك، والدافع لنشوء هذا المذهب: أن الطبقة الجديدة التي نشأت في النظام الإقطاعي تريد حريات في العمل دون تدخل من الملوك، وبلغت الرأسمالية ذروتها في القرن التاسع عشر، وصار النظام رأسماليًا صرفًا، وكان الرأسمالي يمنع الدولة من التدخل مطلقًا، فكان يحصر دور السلطة في حفظ الأمن الداخلي والخارجي، والحكم بين الناس بالعدل، غير ذلك فإن للشعب الحرية في الاقتصاد وطبيعة العمل. س: ما العلاقة بين «الرأسمالية» و«الليبرالية»؟ الجواب: أن الرأسمالية هي الوجه الاقتصادي لليبرالية. الاشتراكية: ظهرت الاشتراكية ردة فعل على الرأسمالية؛ لأن الرأسماليين منعوا الدولة من التدخل، فأصبح أصحاب المصانع والتجار يوظفون العمال بأوضاع قاسية جدًا، فكان الناس يشتكون، ويطالبون بتدخل الدولة لحفظ حقوقهم، فذهبت الاشتراكية إلى أن الصحيح والعدل: أن يكون المُلك للحكومة والنظام، بحيث توزع الحكومة بالعدل بين الناس؛ لأن المصانع والمزارع كان يعمل فيها آلاف الناس، لكن الثروات تذهب لأفراد معينين. وكان الرأسماليون يطالبون بالحرية عمومًا، كحرية الصحافة، والتملك، ونحو ذلك، لكنّ الاشتراكيين قالوا: بعض الحريات التي تطالبون بها لا يستطيع أن يمتلكها إلا أنتم؛ كحرية إنشاء الصحف، وامتلاك السيارات، فهذه الحرية لكم وليست لنا، فأنتم تصوغون النظام بحسب ما تريدون.
س: ما المراحل التي مرت بها الاشتراكية؟ الجواب: أ- كانت الاشتراكية مجرد أفكار خيالية. ب- جاء ماركس، وبدأ التنظير لها بشكل قوي. جــ- ثم جاء الاتحاد السوفيتي في الثورة البلشفية عام (1917)، فنشأت الشيوعية التي فرضت الاشتراكية بالحديد والنار. اكتمال الدولة القومية: في هذا العصر بدأ اكتمال تشكّل الدولة القومية التي تتمحور حول نفسها. الحرب العالمية الأولى وما بعدها: الحرب العالمية الأولى كانت حربًا طاحنة وقُتل وشُرّد فيها الملايين، وانتهت بنوع جديد من التمرد، كفرت بالإنسان وبالقيم بصورة لم تألفها أوروبا طيلة تاريخها، والملفت أن جميع المفكرين كانوا من دعاة الحرب، والمحرضين عليها، سوى فئة قليلة. ومن طبيعة الحروب أنها تحدث هزات فكرية عميقة تبعث على اليأس وحب التغيير على أي قديم، مع شيوع الشهوات والاهتمامات السخيفة، وقد بدلت الحرب كل مفهوم، وفقد القدامة من قادة الفكر مكانتهم، ونشأ جيل جديد، واتجاهاتٌ جديدة، وفقد الجيل ثقته في التقدم، وفي الحضارة الغربية، وانحصرت معتقدات الأدباء ورجالات الفكر في العشرينيات في الجنس والفن. وجعلت الحروب والاضطرابات الإنسان الحديث والمثقف بمسيس الحاجة إلى شيء ما يستأثر بإيمانه، ويكون الموجه لقوى التكنولوجيا اللاهادفة، فقلقه يتوجب عليه أن يبحث عن قيم تكون مرشدة له، وهو سبب نشوء الوجوديين. الحرب العالمية الثانية: كانت الحرب العالمية الثانية فيها زيادة للاضطرابات التي نشأت عن الحرب العالمية الأولى، و«سقطت الأيديولجيات، وابتعد الشباب عن الاهتمام بالسياسة وشؤونها، ولم تعد الحركة الشيوعية قادرة على الاجتذاب إلا العدد القليل من الناس». وفي الحربين الأولى والثانية قُتل ما يزيد عن أربعين مليون إنسان، وهي كارثة لم تعرفها البشرية مطلقًا. النظام العالمي والمؤسسات والمواثيق الدولية: بعد نهاية الحرب العالمية الثانية سنة (1945) نشأت الأمم المتحدة، فنشأ النظام العالمي والمؤسسات والمواثيق الدولية؛ لأن آثار الحرب أشعرتهم بأهمية وجود نظام دولي يحفظ المجتمعات الأوروبية ألا تتقاتل، والهدف هو المجتمعات الأوروبية لا غيرها، وفي سنة (1948) نشأ إعلان حقوق الإنسان المشهور.
العنصر الثالث: العوامل المؤثرة في نشأة المذاهب الفكرية المعاصرة الأول: تحريف الدين النصراني، فالمذاهب الفكرية المعاصرة ثورة على الدين المحرف، ومحاولة لحل مشكلات التحريف الموجودة في الدين النصراني. وقد كانت العقائد الكنسية مخالفة للعقل، وفُرضت على الناس من خلال الدين، ورُفضت محاكمتها. ولما كان الدين سببًا للاقتتال والحروب مالت النفوس للانتماء للوطن الذي يحفظ حقوقها؛ بدلًا من ضياعها في حروب دينية؛ لذلك يقول المؤرخ جان توشار: «الشعور الوطني نشأ جزئيًا عن انحراف ديني» س:ما الفرق بين العقائد النصرانية التي لا يقبلها العقل، وبين ما يقول عنه أهل العلم في الدين الإسلامي: «غير معقول»، أو « العلة تعبدية»؟ الجواب: أن ثمة أحكامًا في الشريعة يعجز العقل عن إدراكها، لكنها لا يُحيلها، أما العقائد الكنسية فإن فيها ما يُناقض العقل؛ كــ«عقيدة الخلاص». الثاني: طغيان الكنيسة، فبسبب الخلط بين أحكام الدين وأحكام الكنيسة؛ صارت أحكام الكنيسة منسوبة للدين. س: ما الفرق بين مؤسسة الكنيسة والعلماء؟ الجواب: أنه لا يوجد وجه شبه أساسًا بينهما حتى نذكر الفروق، ومع ذلك سنذكر بعض النقاط فيما يلي: أ- أن العلماء من امتلك أهلية النظر في الاجتهاد، وليسوا مؤسسة حقيقية، فيعود الأمر إلى التخصص، ويمكن لأي إنسان أن يكون عالمًا في أي زمان ومكان، فمثلهم كمثل التخصص الطبي - مثلًا -، فالجميع يمكنه التخصص، ولا يمكن أن يتفق الجميع على تحريف علم الطب. أما الكنيسة فقد كانت مؤسسة ذات تراتيب صارمة، وتسيطر على كافة رجال الدين، وتحدد العقائد، وتغير الأحكام، وتحرم من الجنة، وتعطي صكوك الغفران. أ- أن مصادر العلماء معروفة، يمكن محاكمتهم إليها، ومعرفة حججها، وكشف أخطائهم وأهوائهم.
س: ما الفرق بين دعم الكنيسة للمظالم السياسية في أوروبا، وما وقع من مظالم في التاريخ الإسلامي، وشرع لها البعض بنصوص شرعية؟ الجواب: أن في الشريعة فصلًا واضحًا بين أحكام الشريعة وتصرفات الحكام والعلماء، أما الكنيسة فقد كانت معبّرة عن الدين، ثم إن الإنجيل لم يكن منتشرًا بين الناس؛ لذلك فإن إعادة لوثر لكتابة الإنجيل باللغة الشعبية - مما ساعد على نشره بين الناس - كان السبب القوي الذي جعل أتباع لوثر يتكاثرون، أما في الإسلام فقد كان القرآن متداولًا بين جميع الناس، ويحفظه الصغار قبل الكبار. يقول برتراند رسل: «ذلك لأن توافر الكتاب المقدس مطبوعًا بين يدي الناس، ومترجمًا إلى لغات محلية؛ قد أفسد على الكنسية ادعاءها الوصاية على أمور العقيدة» جــ- صلاحية العلماء محدودة في التفسير والبلاغ، وفق آليات ومناهج معروفة، ومسبوقة بمدارسة، وذلك بخلاف الكنيسة فيه متحدثة باسم الله، وتخلع على السلطة الشرعية، وبيدها الخلع والمراقبة والمحاسبة. الثالث: حركة الإصلاح الديني، ومن آثار هذه الحركة: أ- إضعاف سلطة الكنيسة ومشروعيتها. ب- إثارة الصراعات والاخلافات والحروب التي قوت الشكوك والردة عن الدين. جــ- الدفع نحو الليبرالية والفردانية. وهناك نزاع بين مؤرخي الفكر: هل المسيحية البروتستانية أصل من أصول الليبرالية أو أنها مجرد أثر فيها؟ ووجه ذلك: أن البروتستانت سحب الناس من الاحتكام من الكنيسة، وجعل لهم حرية شخصية في قراءة النص، فلعل ذلك كان له أثر فيما بعد في نشوء الأفكار الليبرالية التي تقدس الفرد والحرية. د- الحروب والتنازعات الدينية، فقد ضاع الطريق إلى الدين، وأصبح الدين سببًا للافتراق والمظالم، وصار أداة بيد السلطات والحكام الظلمة؛ فبدأ البحث عن مخرج لتحييد هذا الدين الذي سبب هذه الإشكالات، وكان ذلك كما يلي: أوّلًا: إعطاء الملوك حقًا إلهيًا وسلطة مطلقة. ثانيًا: أخذ الحل اتجاها مغايرًا فانتقلت القداسة للدولة، فسابقًا كان الحكم باسم الله، والآن صارت القداسة للدولة نفسها، وعليه؛ فإن أيّ معارضة للنظام فهي معارضة للحق والعدل، ويستحق المعارضُ الجزاء. وعليه؛ فإن الحق الإلهي تحرك مرتين: الأولى: انتقل من الكنيسة إلى الملوك. والثانية: انتقل من الملوك إلى الدولة الحديثة، وهو لا يُسمى كذلك في الدولة الحديثة، ومن مسمياته: «النظام»، و«الديمقراطية»، و«السلطة». الرابع: الصراعات الطبقية، فقد كانت سببًا لنشوء الرأسمالية والاشتراكية، ولها تأثير كبير في الثورات. س: ما الفرق بين «العوامل المؤثرة في نشوء المذاهب الفكرية» و«الأصول الفكرية للمذاهب»؟ الجواب: أن العوامل هي: الأسباب التي نشأت بسببها المذاهب. والأصول هي: المنطلقات والمعتقدات التي اعتمد عليها صاحب الفكرة. اختلاف البيئة الحاضنة لهذه الأسباب عن البيئة الإسلامية: إن تاريخنا الإسلامي لا يعرف هذه النزاعات الدينية، ولا الصراعات الطبقية، وهذا لا يعني أن تاريخنا لا يحمل مشاكل ومظالم، لكنّ المقصود أنك - أيها المسلم - إذا أردت أن تقرأ تاريخك؛ فاقرأه بحسب حاجتك، وإشكالاته نفسها، والخطأ والخلل: أن تُنقل الإشكالات التي عند الغرب إلينا، ومن صور ذلك: أ- تصوير نظام الخلفاء الراشدين على أنه (نظام ثيوقراطي). ب- تقسيم التاريخ الإسلامي إلى قديم، ووسيط، وحديث. جـ- الجزم بأن العلمانية ضرورة حتمية في العالم الإسلامي، فلا بد - بنظر القائل - من وجود خلافات ونزاعات، ثم تأتي العلمانية بعدها. د- أن التاريخ الإسلامي مليء بالحروب الدينية، والحقيقة: أن ما حصل ليس من قبيل الحروب الدينية، بل إننا إذا قارنا ما حدث في التاريخ الأوروبي بما حدث في التاريخ الإسلامي؛ سيظهر لنا شرف وفضل التاريخ الإسلامي، فالصراعات في التاريخ الإسلامي كانت بحثًا عن سلطة، ولم تكن هناك حرب بين الناس أنفسهم، فعندما كان يُحاربُ جيشُ جيشًا لم يكن ينظر إلى المدينة الثانية على أن كلّ من فيها أعداء له، وإنما هو يريد الحكم، فإذا أسقط القيادة فإن بقية الناس يكونون تابعين له دون وجود مشكلة كبيرة، فقضية الدين لم تكن مؤثرة في التاريخ الإسلامي، بل إن الدين كان من أعظم ضمانات تخفيف الفتنة. س: هل الخلاف بين علي ومعاوية - رضي الله عنهما - كان من الاقتتال الديني؟ الجواب: لا، ويكون كذلك إذا كان - مثلًا - لكلّ واحد منهما فهم في الدين، ويريد كلّ واحد منهم أن يُطبّق هذا الفهم، فاقتتلوا على ذلك، وهذا لم يحصل، فإن الخلاف بينهم كان في التعامل مع قتلة عثمان - رضي الله عنه -؛ لذلك نجد عليًا - رضي الله عنه - وجيشه كانوا لا يجهزون على جريح، ولا يلحقون الفارين، ولا يقسمون الأموال. ولعل الفتنة التي حدثت بين الصحابة هي الحرب الوحيدة التي التُزم فيها بأخلاق الإسلام في الحرب، وهذا مما أظهر شرف هذا الجيل: أنه كان في أشد الأحوال التي يتخفف المرء منها من الشريعة تأوّلًا؛ ملتزمًا بأحكام الشرع.
جزاك الله خيرا د.فهد
ملخص المحاضرة:
مدخل في بيان أسباب الضلال عن الحق
يتبادر إلى الذهن أن سبب ضلال الناس وانحرافهم: «عدم علمهم بالحق»، وهذا أمر لا شكّ في وجوده، لكنّه ليس هو السبب الوحيد، فالسبب الأكبر ليس في عدم المعرفة لكنه راجع إلى الانقياد والالتزام والتعظيم، وهنا تأتي الأمراض والأهواء، وعند البحث في كتاب الله عن سبب ضلال الناس نجد أسبابًا عدّة، منها:
أوّلًا: الحسد، ودليل ذلك: قول الله تعالى: ﴿وَدَّ كَثِیرࣱ مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَـٰبِ لَوۡ یَرُدُّونَكُم مِّنۢ بَعۡدِ إِیمَـٰنِكُمۡ كُفَّارًا حَسَدࣰا مِّنۡ عِندِ أَنفُسِهِم مِّنۢ بَعۡدِ مَا تَبَیَّنَ لَهُمُ ٱلۡحَقُّۖ﴾ [البقرة ١٠٩]
ثانيًا: التعصّب للآباء، ودليل ذلك: قول الله تعالى: ﴿وَكَذَ ٰلِكَ مَاۤ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ فِی قَرۡیَةࣲ مِّن نَّذِیرٍ إِلَّا قَالَ مُتۡرَفُوهَاۤ إِنَّا وَجَدۡنَاۤ ءَابَاۤءَنَا عَلَىٰۤ أُمَّةࣲ وَإِنَّا عَلَىٰۤ ءَاثَـٰرِهِم مُّقۡتَدُونَ﴾
ثالثًا: حب الدنيا، ودليل ذلك: قول الله تعالى: ﴿ذَ ٰلِكَ بِأَنَّهُمُ ٱسۡتَحَبُّوا۟ ٱلۡحَیَوٰةَ ٱلدُّنۡیَا عَلَى ٱلۡـَٔاخِرَةِ وَأَنَّ ٱللَّهَ لَا یَهۡدِی ٱلۡقَوۡمَ ٱلۡكَـٰفِرِینَ﴾ [النحل ١٠٧]
رابعًا: الإعراض، ودليل ذلك: قول الله تعالى: ﴿وَٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ عَمَّاۤ أُنذِرُوا۟ مُعۡرِضُونَ﴾ [الأحقاف ٣]
خامسًا: الغفلة، ودليل ذلك: قول الله تعالى: ﴿یَعۡلَمُونَ ظَـٰهِرࣰا مِّنَ ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَا وَهُمۡ عَنِ ٱلۡـَٔاخِرَةِ هُمۡ غَـٰفِلُونَ﴾ [الروم ٧]
سادسًا: الكبر، ودليل ذلك: قول الله تعالى: ﴿وَقَالُوا۟ لَوۡلَا نُزِّلَ هَـٰذَا ٱلۡقُرۡءَانُ عَلَىٰ رَجُلࣲ مِّنَ ٱلۡقَرۡیَتَیۡنِ عَظِیمٍ﴾ [الزخرف ٣١]، وقال الله تعالى: ﴿وَقَالَ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ لِلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَوۡ كَانَ خَیۡرࣰا مَّا سَبَقُونَاۤ إِلَیۡهِۚ﴾ [الأحقاف ١١]
سابعًا: العوض الدنيوي، ودليل ذلك: قول الله تعالى: ﴿فَوَیۡلࣱ لِّلَّذِینَ یَكۡتُبُونَ ٱلۡكِتَـٰبَ بِأَیۡدِیهِمۡ ثُمَّ یَقُولُونَ هَـٰذَا مِنۡ عِندِ ٱللَّهِ لِیَشۡتَرُوا۟ بِهِۦ ثَمَنࣰا قَلِیلࣰاۖ فَوَیۡلࣱ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتۡ أَیۡدِیهِمۡ وَوَیۡلࣱ لَّهُم مِّمَّا یَكۡسِبُونَ﴾ [البقرة ٧٩]
ثامنًا: التحريف، ودليل ذلك: قول الله تعالى: ﴿مِّنَ ٱلَّذِینَ هَادُوا۟ یُحَرِّفُونَ ٱلۡكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِۦ﴾ [النساء ٤٦]
وهذا يدل على أنّ الانحراف ليس منحصرًا بالجانب العلمي، وإنما قد يكون لأسباب نفسية، ومن هنا يتبيّن الفرق بين منهجين في التعامل مع المذاهب والشبهات:
أحدهما: منهج مَن يخاف على إيمانه ويدعو الله بالثبات على الحقّ، ويحرص على اجتناب الشبهات.
والآخر: هو المنهج القائل: قد رزقك الله عقلًا وفهمًا؛ فلا خوف عليك بعد هذا.
وقد قال الله تعالى لنبيّه - صلى الله عليه وسلم -: ﴿وَلَوۡلَاۤ أَن ثَبَّتۡنَـٰكَ لَقَدۡ كِدتَّ تَرۡكَنُ إِلَیۡهِمۡ شَیۡـࣰٔا قَلِیلًا﴾ [الإسراء ٧٤].
قال جان جاك روسو عن الفلاسفة: «ثم تبيّن لي أن أصل هذا التباين الهائل في تصوّراتهم يعود إلى عجز الإنسان أوّلًا، وإلى تكبّره ثانيًا»، وقال: «حتى ولو كان في وسع الفلاسفة أن يكتشفوا الحقيقة؛ مَن منهم يهتمّ بها؟ كلّ واحد منهم يعلم أن مقولته ليست أوثق تأصيلًا من غيرها، لكنّه يتشبّث بها لأنّها من إبداعه»
العنصر الأول: أهمية دراسة المذاهب الفكرية المعاصرة
أوّلًا: هي جزء أساسي من الدراسة الشرعية؛ لأنها مذاهب تؤثّر في اعتقادات الناس وتصوّراتهم، ولا يمكن أن يُبيَّن ما فيها من ضلال إلا بدراستها.
ثانيًا: الفارق الكبير بين عناية الدراسات الشرعية المعاصرة بالمذاهب الفكرية المعاصرة لها، وعناية علماء الإسلام المتقدمين بالأفكار المنحرفة في زمانهم.
مثال ذلك: معرفة شيخ الإسلام ابن تيمية الدقيقة بالأقوال التفصيلية للفلاسفة والمبتدعة، بينما تجد في زماننا كثيرًا من طلاب العلم يُدركون تفاصيل مذهب المعتزلة - مثلًا - مع جهلهم بأصول المذاهب الفكرية المعاصرة.
ثالثًا: اتّساع التأثّر بهذه الأفكار والمذاهب، وتأثيرها على الأحكام الشرعية، واحتكاكها بقضايا الحياة، بما يتطلّب ضرورة العناية المفصّلة بها.
رابعًا: إثارتها لأسئلة تتطلب إجابات شرعية، لا يمكن تقديمها وفق رؤية شرعية صحيحة دون الإلمام بالمذاهب الباطلة.
خامسًا: إبراز قوة منهج الإسلام، وإيجابية أحكامه، وعقلانية أصوله وفروعه، وهذا لا يتجلّى عند المقارنة.
سادسًا: خطورة التناول السلبي للقضايا الفكرية المعاصرة، وهذا التناول له آثار، منها: «رفض الحق»، أو «قبول الباطل»، أو «التقصير في بيان الباطل ونصرة الحق»، أو «الانعزال عن المواجهة».
العنصر الثاني: ظروف تكوّن ونشأة المذاهب الفكرية المعاصرة
المعتاد في دراسة المذاهب الفكرية أن تُدرس مذهبًا مذهبًا، وهي طريقة مفيدة، لكنّ الأفضل منها: دراسة التاريخ الذي شكّل المذاهب كلّها، والتاريخ الأوروبي هو الذي شكّل المذاهب الفكرية المعاصرة.
س: ما ميزة الدراسة التاريخية للأفكار؟
الجواب: تجنّب تسطيح القضايا الفكرية بتفسيرها ببعض جوانب إيجابية عامة لا تعبّر عن أصولها الفكريّة المميزة، ومن أمثلة ذلك:
أ- القومية = حب الأرض.
ب- الليبرالية = الحريّة.
جـ- العلمانية = منع تسلّط رجال الدين.
د- العقلانية = استعمال العقل.
هـ- الديمقراطية = الشورى.
و- الإنسانية = حب الخير للناس.
ز- التنوير = الانفتاح والاستفادة مما عند الآخرين.
فهذه جملة من التفسيرات السطحية للأفكار المعاصرة، وهذه التفسيرات أشبه باللغة الدعائية الإعلامية التسويقية، وليست لغة علمية.
التتمة في الرد على هذا التعليق 👇
إشكالية المركزية الأوروبية
عند الغربيين مشكلة وخاصة في كتبهم التي تتحدث عن الأفكار، وهي: اعتقادهم بأن العقلية الغربية هي محور الكون، وأنّ ما عداها فهو على الهامش، فالأوروبي يؤثّر ولا يتأثّر.
واللوم هنا لا ينصبّ عليهم، وإنما على مَن يتقبّل هذه العقلية، ويفكّر بنفس المنظار الغربي، ومن أمثلة هذا التأثر:
أ- عند الحديث عن أوّل نظام بدأ يحفظ حقوق الناس من الظلم والتعدي؛ نجد الغربي يفكر في اليونان وفلاسفته، ثم ينتقل إلى العصور الوسطى، ثم عصر النهضة، ثم الزمان المعاصر، فهذا تاريخ حفظ حقوق الإنسان في العالم من منظار الغربي، والعجيب أن يأتي مسلم فيتكلّم بنفس الطريقة، و كأنه لا يملك حضارة إسلامية، ولا رسالة جاء بها محمد - صلى الله عليه وسلم -!.
ب- من العبارات الشائعة: «فلان يريد إرجاعنا للعصور الوسطى»، و«العصور الوسطى» هي تعبير عن زمن في التاريخ الأوروبي، وهذا المتأثر يُسمّي العصور التي من زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى نهاية الدولة العباسية بــ«العصور الوسطى» مع أنّ هذه العصور هي العصور الزاهية للحضارة الإسلامية، لكنّه يُسمّيها بذلك؛ لأنه ينظر من المنظار الغربي.
س: ما هو المرتكز للانطلاق الصحيح في التاريخ؟
الجواب: المحور الأساس للانطلاق الصحيح من التاريخ ينبغي أن يكون مرتكزًا على سيرة الأنبياء ودعواتهم، ولا يُمكن أن تفهم التاريخ وأنت مغيّب الذهن عن دعوة الأنبياء.
أقسام العصور الرئيسة في التاريخ الأوروبي
الأول: العصر القديم.
يبدأ من عصر اليونان، ويستمر حتى سقوط الامبراطورية الرومانية على أيدي القبائل الجرمانية في القرن الخامس الميلادي، وهذا يعني أنه يمتد ما يقرب من ألف وثلاثمائة سنة.
الثاني: العصر الوسيط.
يبدأ من سقوط الامبراطورية الرومانية، ويستمر حتى نهاية القرن الثالث عشر أو الرابع عشر ميلادي.
الثالث: العصر الحديث.
يبدأ من نهاية القرون الوسطى حتى يومنا هذا، وهو يقسم لأربعة أقسام: «عصر النهضة»، و«عصر التنوير»، و«عصر الثورات»، و«التاريخ المعاصر».
العصر القديم
ابتداء من القرن الثامن إلى القرن الخامس قبل الميلاد، وهو عصر يعتزّ به الأوروبيون، ويرون أن رؤيتهم الحالية هي مُطوّرة ومكمّلة لها؛ فيشعرون بالانتماء لهذا العصر.
مميزات العصر القديم:
أوّلًا: العلوم الطبيعية.
ثانيًا: الفلسفة.
ثالثًا: العمران.
رابعًا: الشعر.
خامسًا: تطبيقات قديمة للديمقراطية، لكنّها تختلف عن الديمقراطية المعاصرة.
حكم الرومان:
دخلت اليونان في حكم الإمبراطورية الرومانية في منتصف القرن الثاني قبل الميلاد، وبعد مائتي سنة تقريبًا جاء المسيح - عليه السلام -، واضطهدت الامبراطوريةُ الرومانية أتباع المسيح، إلى أن جاء القرن الرابع الميلادي ودخل (قسطنطين الأول) في المسيحية، وأعلن المسيحية دينا رسميًا في المجمع الكنسي المشهور سنة (325)، لكن بعد أن أُدخل في المسيحية بعض العقائد الوثنية الموروثة من اليونان.
وظلّت هذه الإمبراطورية تضعف تدريجيًا إلى أن سقطت في القرن الخامس، ودخلت أوروبا في العصر الوسيط.
القرون الوسطى
استمر هذا العصر حتى بداية عصر النهضة، وهو يُشكّل في العقل الأوروبي رمزًا للتخلّف، والضعف، وهيمنة رجال الدين، وقمع الأفكار والحرّيات، وفي هذا العصر وقع سلطان الكنيسة العميق على الناس؛ فأصبح لها حكم وسطوة على الجانب السياسي، وهذه السطوة ليست مستمرة طوال العصر فهي تمر بتقلّبات، فتارة تقوى فتكون أقوى من سطوة الملوك والأمراء، وتارة تنافسهم، وتارة تكون تابعة لهم.
مثال على سطوة الكنيسة: اختصم الملك هنري الرابع مع البابا غريغوري السابع، فطرده البابا وحرمه من الكنيسة؛ فاجتمع أمراء هذا الملك، واتّفقوا على أنّ هذا الملك إذا لم يُرضِ البابا ويُعلن توبته فإن الملك سيُنزع من صلاحياته، فاضطر الملك أن يحجّ حافي القدمين إلى مكان البابا، وحبسه البابا عند أسوار الكنيسة أيامًا، قاسى فيها الجوع والبرد والذل؛ حتى عفا عنه.
مظاهرٌ للانحراف في القرون الوسطى
الأول: طغيان الكنيسة، ويتجلى في صور:
أ- الطغيان الديني، وذلك باحتكار الكتاب المقدّس، فلا أحد يقرأ الكتاب ويفهمه إلّا هم، وبإمكانهم تغيير العقائد، وحرمان الناس من الجنة، وتوزيع صكوك الغفران.
ب- الطغيان السياسي، بالظلم والقتل والتعدي.
جـ- الطغيان المالي، وذلك بأخذ الثروات الفاحشة من الناس،وكان عند الناس حالة منافرة بين ما يعلمونه من ذمّ المسيحية للمال وتعظيم للزهد في الدنيا، وبين ما يرونه من تقلب القساوسة والباباوات في الخيرات.
د- الصراع مع العلم، وقد نجحت محكمة التفتيش في تعطيل البحث العلمي عن إيطاليا لقرون.
الثاني: الحكم نيابة عن الله (الحكم الثيوقراطي).
والمراد به: أن الكنيسة تحكم هي، أو من تُنوب نيابة عن الله تعالى، فالحاكم لا يمثّل اجتهاداته وأعماله، وإنّما يُمثّل الله تعالى، فالاعتراض عليه أو على سلطته هو إنكار على الله تعالى.
وفي التاريخ الإسلامي لا يوجد هذا الحكم، ويستثنى من ذلك حُكم النبي - صلى الله عليه وسلم - فيحتاج إلى تفصيل خاص، أما غيره فإنه لا يُعرف في التاريخ الإسلامي، ومن العجيب أن بعض المسلمين يُقسّم الأنظمة في التاريخ الإسلامي إلى قسمين: (أنظمة ثيوقراطية)، و(أنظمة غير ثيوقراطية)، والإشكالية هنا في الانبهار والانهزام أمام الثقافة الغربية، فإذا كان عند الغرب (ثيوقراطية) فينبغي أن يكون عندنا - بنظره -، نفس ما عندهم، ثم يبحث في التاريخ عن ذلك،والمثل يقول: (إذا كنت مطرقة سترى كل الناس مسامير).
الثالث: الإقطاع.
والمراد به: أنّ الملك يوزّع الأراضي على أمراء، ونبلاء، أو أمراء حرب، والأمراء يدفعون ضربية، ويأخذون ضريبة من الناس، ويكون الملك - أحيانًا - قويًا فيأخذ ضريبة مباشرة من الناس، وأحيانًا يحتاج إلى أمراء، ويحتاج الأمراء - أحيانًا - إلى أمراء أصغر منهم، فتصبح بذلك المملكة مقطّعة إلى أحياء فيها أُناس يعملون هم أشبه بالعبيد، وعندهم سيد يدينون له بالولاء والطاعة، وفي هذا ظلم وطغيان على الناس العاملين؛ لأنهم يعملون ليل نهار لسدّ الضرائب التي فُرضت عليهم، فعاش الناس طبقتين:
أ- طبقة الأمراء والنبلاء.
ب- طبقة الإقطاعيين العاملين.
الرابع: محاكم التفتيش.
والمراد به: ملاحقة أيّ رؤية أو شخصية تُعارض الكنيسة في فهمها.
هذه المحاكم نشأت في القرن الثالث عشر الميلادي تقريبًا، وقويت أكثر في إسبانيا بعدما وقعت في حكم النصارى، وأحدثت هذه المحاكم قمعًا شديدًا للناس.
العصر الحديث
أ- عصر النهضة
في هذا العصر نشأت سلطة الملوك ذات السلطات الواسعة المستبدة، التي تمتلك حقًا إلهيًا لها بالحكم، فبعد أن ضعفت سلطة الكنيسة تحول السلطة إلى سلطة الملوك، وهذا الملك تكون له سطوة وقوّة، ولا يكون تابعًا للكنيسة، بل العكس، والاختلافات الدينية والاضطرابات الأمنية التي كانت في العصر الوسيط جعلت الناس يشعرون أن هذا خلاص لهم، فبدأ ما يُسمّى بــ«المُلك ذات السلطات الواسعة»، وهو: الملك الذي لا قيود على سلطته وله حقّ إلهي، فانتقل الحقّ الإلهي من الكنيسة إليه، وتجلى الحكم المستبد أكثر من العصور الوسطى، وأصبحت الملكية هي النمط السائد في أوروبا الغربية.
التنظير لسلطة الحاكم:
تتأثر المذاهب الفكرية بزمانها وعصرها، فالفيلسوف يكتب بحسب تأثّره بعصره، وفي هذا العصر بدأ عدد من الفلاسفة يبررون لسلطة الحاكم، ومن أشهرهم: «توماس هوبس»، و«جان بودان»، و«ميكافيلّي».
الجانب العلمي والديني في عصر النهضة:
أوّلًا: لم يتميز هذا العصر في جوانب العلم والاختراع، ولا في جوانب البحث والفلسفة، والغريب أن في التاريخ الأوروبي إشادة بهذا العصر، مع أن أواخر العصر الذي قبله أحسن منه على المستوى العلمي والتقني، لكن طبيعة الاعتزاز بالتاريخ، وجعل القضية مبنية على التطوّر؛ يجعلهم يقولون ذلك.
ثانيًا: بقي الدين عميقًا في هذا العصر فلم يحدث تحوّل عنه، قال رونالد سترومبرج: « كان من المستحيل على أيّ مفكر أو أديب الخروج عن نطاق الدين؛ لأنه كان يحتوي الثقافة بأكملها، فالدين كان يومذاك يحتوي الثقافة بأكملها…، ولقد كان بمستطاع المرء حينذاك أن يتلوّن بلون أو آخر من ألوان المسيحية…، ولكن لم يكن بتاتًا من المعقول أن يكون مناهضًا للمسيحية أو غير مسيحي» ، وقال: «لم يُوضع أيّ أساس فكري لمناهضة المسيحية قبل القرن السابع عشر».
الاستكشافات في هذا العصر:
في هذا العصر حدثت استكشافات ضخمة؛ كاكتشاف الأمريكيتين التي حوّلت مسار الحضارة الغربية، وجرى بعده توسع اقتصادي واحتلال لدول العالم.
الصراعات العنيفة:
دخلت أوروبا في صراعات عنيفة ممتدة خلال القرن السابع عشر والثامن عشر؛ كحرب الثلاثين عامًا بدءًا من (1618)، وكان لذلك أثر في إحداث تغيير سكاني كبير في ألمانيا.
حركة الإصلاح الديني
هذا الحدث هو أهم حدث في التاريخ الأوروبي كلّه، ففي عام (1517) علق الأستاذ في علم اللاهوت مارتن لوثر خمسة وتسعين اعتراضًا على باب الكنيسة، وهو كان مسيحيًا متدينًا، لكنه كان يعترض على سلطة الكنيسة المطلقة، وصكوك الغفران، وحرمان الناس من فهمهم في حقّ الدين، وهذا الأمر مع كونه بديهيًا عندنا في الإسلام إلا أنه في أوروبا كان كالزلزال على الحضارة الغربية؛ لأنها فككت عرش الكنيسة.
هذه الحادثة لم تكن تشغل إلّا فئة قليلة من المتخصصين، لكن الكنيسة حاكمته، وأصر على آرائه في المحاكمة، وكان يقول: «سلطان الكتاب المقدس فوق سلطان الكنيسة»، وأمرت الكنيسة بنفيه، فاحتضنه أحد الأمراء، وتبناه الملك الألماني؛ لأن الأمراء الألمان وجدوا هذه فرصة ذهبية؛ لأنهم بها يستطيعون السيطرة على كنائسهم دون رجوعها للكنيسة الكبرى، وبذلك نشأ المذهب البروتستانتي الجديد ضد المذهب الكاثوليكي، ونشأت حروب بين الطائفتين استمرت قرنين، قُتل فيها أعداد هائلة، ونشأت مذبحة عظيمة في التاريخ الأوروبي بسبب الحروب الدينية.
تشجيع لوثر للقمع الوحشي على الفلاحين:
شجع لوثر إجراءات القمع الوحشية على الفلاحين التي مارسها الألمان، والتي جعلتهم أكثر عجزًا وهوانًا عن أية طبقة اجتماعية أخرى في وسط وغرب أوروبا
دور كالفن في تحو يل أفكار لوثر إلى جانب عملي:
بعد لوثر جاء شخص أخطر منه، وهو: «كالفن» (ت: 1564م)، وقام بتحويل ما نظّره لوثر إلى جانب عملي، وكان تأثير لوثر في ألمانيا، بينما كالفن وسع الرقعة، وأثّر في فرنسا وما حولها، فأسس كالفن كنيسةً أصبحت تقوم بنفس الدور الذي تقوم به الكنيسة الكاثوليكية.
القومية
في هذا العصر بدأ تشكّل بدايات الفكرة القومية، وقبل ذلك كانت الكنيسة تحكم أوروبا كلّها باعتبار الدين، ومع بداية القرن الثامن عشر بدأت تظهر هذه الفكرة بوضوح، واكتمل نمو الدولة القومية مع الثورة الفرنسية، ثم تتابعت الدول القومية بعد ذلك، وبلغت أشدّها مع الحروب العالمية؛ لتكون الغلبة أخيرًا للدولة الوطنية التي تجمع قوميات.
ب- عصر التنوير
الحقبة الزمنية: كان هذا العصر بين القرنين السابع عشر والثامن عشر - تقريبًا -
التمرد على النصرانية في عصر التنوير:
كان الدين هو الاهتمام الرئيسي لمعظم الناس في معظم الأزمان، ولكن عصر التنوير ثار على تلك العادة، حيث بدأ التمرد على الإيمان بالنصرانية، وبرز المذهب الربوبي، وهو: المذهب الذي يؤمن بالله وينكر النبوات، وقد هاجموا الأسفار المقدسة، وأظهروا تناقضتها، ولم يقبلوها لكثرة الانحرافات الكنسية في أوروبا، وهم يعتقدون أن وجود الله ضروري؛ لحفظ الأخلاق وتصورات الناس؛ لذلك صاروا يبحثون عن دين سهل يلبي الحاجة الفطرية، مع تحييد العناصر المثيرة للاختلاف؛ لأن الحروب الدينية أحدث أزمة عميقة جدًا، فزعموا أنّ الحل في الدين الربوبي الذي أتوا به، وهم بهذا لم يتلقوا دين رب العالمين، وإنما اخترعوا دينًا جديدًا، قال جان جاك روسو: «الواجب أن تكون عقائد الدين المدني بسيطة وقليلة العدد، ومنطوقًا بها بدقة، بلا تفاسير ولا شروح»
حل مشكلة النظام السياسي:
ينقل الشيخ عن أحدهم أنه قال: «لقد أصبح من الواجب فصل دين الإنسان عن دين المواطن، أو الدين المدني، لقد كان الأمر يتعلق بإيجاد صيغة تمتلك كل مزايا الدين القديم، بدون الإساءة للحرية الداخلية للإنسان وللحقيقة، وبدون فرض مضمون عقائدي دوغمائي بكل معنى الكلمة، يولد منه عدم التسامح؛ لأنه لم يحدث مطلقًا أن أُسست دولة لم يستخدم الدين كقاعدة لها»، فإلى هذه اللحظة لا غنى لهم عن الدين، لكنهم يخترعون الدين الذي يناسبهم.
الإلحاد في عصر التنوير:
هناك ثلاثة شواهد من عصر التنوير تدل على حالة الإلحاد في ذلك العصر:
الأول: قال سترومبرج: «كتب شخص اسمه (بياربايل) أن الملحد قد يكون مواطنًا صالحًا، فلم يتفق معه إلا قلة، واعتبره أكثر الناس فضيحة؛ لأن المسيحية كانت دعامة أساسية للأخلاق»
الثاني: حكى المؤرخ الفرنسي "توكفيل" قصة شاهد في قضية قال أمام القاضي إنه لا يؤمن بوجود الله، فرفض القاضي شهادته على أساس أن إلحاده يهدم كل ثقة بكلامه.
الثالث: قال جون لوك: «لا يجوز أبدًا التسامح مع من ينكرون وجود الله؛ ذلك أن الوعود والمواثيق والأقسام التي هي روابط المجتمع الإنساني لا حرمة لها ولا اعتبار عند الملحد؛ ذلك أن استبعاد الله - حتى ولو كان بالفكر - يحلّ كلّ شيء، وفضلًا عن ذلك فإنه بالإلحاد يقوض ويحطم كل دين، لا يمكنه باسم الدين أن يطالب بحق التسامح معه».
أثر المناظرات والخصومات على الناس:
كثرة الخصومات والمناظرات بين القساوسة في المسائل الدينية؛ جعلت الناس يتجاهلون المسائل الدينية، وهذه قضية مهمة ينبغي استحضارها في التعاطي مع الشبهات والإشكالات، فإن ليس من المنهج الصحيح: كثرة الجدل، وإنما بيان الحق بأدلته هو المنهج الصحيح.
رجال الدين في فرنسا
كان "رجال الدين" جزءًا من الطبقة الحاكمة في فرنسا، ولهم امتيازات، فكان التشدد ضد الانحرافات الدينية أشد من بريطانيا، ولهذا كانت الثورة ضدهم أشدّ، وقد كانت بريطانيا سبقت فرنسا في الحريات والتسامح الديني، فالعلاقة ضد الدين لم تكن عنيفة كما في فرنسا.
ب- عصر الثورات
المدة الزمنية لهذا العصر: من (1775) مع الثورة الأمريكية، ومرورًا بالثورة الفرنسية (1789)، ثم الثورة الفرنسية (1848) حتى صارت الثورات من الأمور الشائعة.
وقد كان عدد النبلاء في فرنسا يُقدّر قبل الثورة بــ(1.5%) من السكان، وهؤلاء يمتلكون ثروات ضخمة جدًا، وقد كان هذا التفاوت الطبقي الكبير من أسباب الثورة الفرنسية.
الانزلاق نحو الشبهات بعد إبعاد الدين:
قال سترومبرج: «إن المجتمع الارستقراطي الباحث عن اللذة في القرن الثامن عشر بعد أن تحرر من المخاوف ومن العقاب الإلهي وتغذى على روايات العشق، ولوحاته الزيتية؛ انغمس في شهواته انغماسًا لم تشهد الأزمان الماضية له مثيلًا» ، وهذا يكشف سذاجة من يقول: «الحرية تقوي التدين».
وفي تلك المرحلة كان الدين ما زال ظاهرًا، وقد كان حاكم فرنسا بونابرت مُصابًا بالغبطة بصدمة الناس بالحديث في مجالسهم الخاصة عن إلحاده، لكنه كان يؤمن أن الدين هو القادر على توفير الدعائم الأساسية للدولة؛ لذلك لم يكن يسمح أو يتسامح مع أيّ خروج علني على الدين.
صعود البرجوازية وتأثيرها:
البرجوازية: طبقة بين «الإرستقراطيين» و«الإقطاعيين».
كان السائد في القرون الوسطى وجود طبقتين: «طبقة النبلاء» و«طبقة العمال»، وبعد القرن الخامس عشر ازدادت حركة التجارة، فنشأت طبقة جديدة بين النبلاء والعمال؛ كأن يكون الإنسان تاجرًا، أو موظفًا في مصنع، أو كاتبًا، أو روائيًا، أو مهندسًا، ونحو ذلك، هذه الطبقة بدأت تعمل، وصار لها رؤوس أموال، وبدأت تفكك النظام الإقطاعي، وبدأت هذه الطبقة بالضغط على الملوك والأمراء لمراعاة وضعهم، ونتج عن هذا الخلاف «الرأسمالية».
الرأسمالية:
الرأسمالية هي أهم تيار فكري اقتصادي حصل في تاريخنا المعاصر، وسُمي بذلك لارتباطه بحرية رأس المال في التحرك، والدافع لنشوء هذا المذهب: أن الطبقة الجديدة التي نشأت في النظام الإقطاعي تريد حريات في العمل دون تدخل من الملوك، وبلغت الرأسمالية ذروتها في القرن التاسع عشر، وصار النظام رأسماليًا صرفًا، وكان الرأسمالي يمنع الدولة من التدخل مطلقًا، فكان يحصر دور السلطة في حفظ الأمن الداخلي والخارجي، والحكم بين الناس بالعدل، غير ذلك فإن للشعب الحرية في الاقتصاد وطبيعة العمل.
س: ما العلاقة بين «الرأسمالية» و«الليبرالية»؟
الجواب: أن الرأسمالية هي الوجه الاقتصادي لليبرالية.
الاشتراكية:
ظهرت الاشتراكية ردة فعل على الرأسمالية؛ لأن الرأسماليين منعوا الدولة من التدخل، فأصبح أصحاب المصانع والتجار يوظفون العمال بأوضاع قاسية جدًا، فكان الناس يشتكون، ويطالبون بتدخل الدولة لحفظ حقوقهم، فذهبت الاشتراكية إلى أن الصحيح والعدل: أن يكون المُلك للحكومة والنظام، بحيث توزع الحكومة بالعدل بين الناس؛ لأن المصانع والمزارع كان يعمل فيها آلاف الناس، لكن الثروات تذهب لأفراد معينين.
وكان الرأسماليون يطالبون بالحرية عمومًا، كحرية الصحافة، والتملك، ونحو ذلك، لكنّ الاشتراكيين قالوا: بعض الحريات التي تطالبون بها لا يستطيع أن يمتلكها إلا أنتم؛ كحرية إنشاء الصحف، وامتلاك السيارات، فهذه الحرية لكم وليست لنا، فأنتم تصوغون النظام بحسب ما تريدون.
س: ما المراحل التي مرت بها الاشتراكية؟
الجواب:
أ- كانت الاشتراكية مجرد أفكار خيالية.
ب- جاء ماركس، وبدأ التنظير لها بشكل قوي.
جــ- ثم جاء الاتحاد السوفيتي في الثورة البلشفية عام (1917)، فنشأت الشيوعية التي فرضت الاشتراكية بالحديد والنار.
اكتمال الدولة القومية:
في هذا العصر بدأ اكتمال تشكّل الدولة القومية التي تتمحور حول نفسها.
الحرب العالمية الأولى وما بعدها:
الحرب العالمية الأولى كانت حربًا طاحنة وقُتل وشُرّد فيها الملايين، وانتهت بنوع جديد من التمرد، كفرت بالإنسان وبالقيم بصورة لم تألفها أوروبا طيلة تاريخها، والملفت أن جميع المفكرين كانوا من دعاة الحرب، والمحرضين عليها، سوى فئة قليلة.
ومن طبيعة الحروب أنها تحدث هزات فكرية عميقة تبعث على اليأس وحب التغيير على أي قديم، مع شيوع الشهوات والاهتمامات السخيفة، وقد بدلت الحرب كل مفهوم، وفقد القدامة من قادة الفكر مكانتهم، ونشأ جيل جديد، واتجاهاتٌ جديدة، وفقد الجيل ثقته في التقدم، وفي الحضارة الغربية، وانحصرت معتقدات الأدباء ورجالات الفكر في العشرينيات في الجنس والفن.
وجعلت الحروب والاضطرابات الإنسان الحديث والمثقف بمسيس الحاجة إلى شيء ما يستأثر بإيمانه، ويكون الموجه لقوى التكنولوجيا اللاهادفة، فقلقه يتوجب عليه أن يبحث عن قيم تكون مرشدة له، وهو سبب نشوء الوجوديين.
الحرب العالمية الثانية:
كانت الحرب العالمية الثانية فيها زيادة للاضطرابات التي نشأت عن الحرب العالمية الأولى، و«سقطت الأيديولجيات، وابتعد الشباب عن الاهتمام بالسياسة وشؤونها، ولم تعد الحركة الشيوعية قادرة على الاجتذاب إلا العدد القليل من الناس».
وفي الحربين الأولى والثانية قُتل ما يزيد عن أربعين مليون إنسان، وهي كارثة لم تعرفها البشرية مطلقًا.
النظام العالمي والمؤسسات والمواثيق الدولية:
بعد نهاية الحرب العالمية الثانية سنة (1945) نشأت الأمم المتحدة، فنشأ النظام العالمي والمؤسسات والمواثيق الدولية؛ لأن آثار الحرب أشعرتهم بأهمية وجود نظام دولي يحفظ المجتمعات الأوروبية ألا تتقاتل، والهدف هو المجتمعات الأوروبية لا غيرها، وفي سنة (1948) نشأ إعلان حقوق الإنسان المشهور.
العنصر الثالث: العوامل المؤثرة في نشأة المذاهب الفكرية المعاصرة
الأول: تحريف الدين النصراني، فالمذاهب الفكرية المعاصرة ثورة على الدين المحرف، ومحاولة لحل مشكلات التحريف الموجودة في الدين النصراني.
وقد كانت العقائد الكنسية مخالفة للعقل، وفُرضت على الناس من خلال الدين، ورُفضت محاكمتها.
ولما كان الدين سببًا للاقتتال والحروب مالت النفوس للانتماء للوطن الذي يحفظ حقوقها؛ بدلًا من ضياعها في حروب دينية؛ لذلك يقول المؤرخ جان توشار: «الشعور الوطني نشأ جزئيًا عن انحراف ديني»
س:ما الفرق بين العقائد النصرانية التي لا يقبلها العقل، وبين ما يقول عنه أهل العلم في الدين الإسلامي: «غير معقول»، أو « العلة تعبدية»؟
الجواب: أن ثمة أحكامًا في الشريعة يعجز العقل عن إدراكها، لكنها لا يُحيلها، أما العقائد الكنسية فإن فيها ما يُناقض العقل؛ كــ«عقيدة الخلاص».
الثاني: طغيان الكنيسة، فبسبب الخلط بين أحكام الدين وأحكام الكنيسة؛ صارت أحكام الكنيسة منسوبة للدين.
س: ما الفرق بين مؤسسة الكنيسة والعلماء؟
الجواب: أنه لا يوجد وجه شبه أساسًا بينهما حتى نذكر الفروق، ومع ذلك سنذكر بعض النقاط فيما يلي:
أ- أن العلماء من امتلك أهلية النظر في الاجتهاد، وليسوا مؤسسة حقيقية، فيعود الأمر إلى التخصص، ويمكن لأي إنسان أن يكون عالمًا في أي زمان ومكان، فمثلهم كمثل التخصص الطبي - مثلًا -، فالجميع يمكنه التخصص، ولا يمكن أن يتفق الجميع على تحريف علم الطب.
أما الكنيسة فقد كانت مؤسسة ذات تراتيب صارمة، وتسيطر على كافة رجال الدين، وتحدد العقائد، وتغير الأحكام، وتحرم من الجنة، وتعطي صكوك الغفران.
أ- أن مصادر العلماء معروفة، يمكن محاكمتهم إليها، ومعرفة حججها، وكشف أخطائهم وأهوائهم.
س: ما الفرق بين دعم الكنيسة للمظالم السياسية في أوروبا، وما وقع من مظالم في التاريخ الإسلامي، وشرع لها البعض بنصوص شرعية؟
الجواب: أن في الشريعة فصلًا واضحًا بين أحكام الشريعة وتصرفات الحكام والعلماء، أما الكنيسة فقد كانت معبّرة عن الدين، ثم إن الإنجيل لم يكن منتشرًا بين الناس؛ لذلك فإن إعادة لوثر لكتابة الإنجيل باللغة الشعبية - مما ساعد على نشره بين الناس - كان السبب القوي الذي جعل أتباع لوثر يتكاثرون، أما في الإسلام فقد كان القرآن متداولًا بين جميع الناس، ويحفظه الصغار قبل الكبار.
يقول برتراند رسل: «ذلك لأن توافر الكتاب المقدس مطبوعًا بين يدي الناس، ومترجمًا إلى لغات محلية؛ قد أفسد على الكنسية ادعاءها الوصاية على أمور العقيدة»
جــ- صلاحية العلماء محدودة في التفسير والبلاغ، وفق آليات ومناهج معروفة، ومسبوقة بمدارسة، وذلك بخلاف الكنيسة فيه متحدثة باسم الله، وتخلع على السلطة الشرعية، وبيدها الخلع والمراقبة والمحاسبة.
الثالث: حركة الإصلاح الديني، ومن آثار هذه الحركة:
أ- إضعاف سلطة الكنيسة ومشروعيتها.
ب- إثارة الصراعات والاخلافات والحروب التي قوت الشكوك والردة عن الدين.
جــ- الدفع نحو الليبرالية والفردانية.
وهناك نزاع بين مؤرخي الفكر: هل المسيحية البروتستانية أصل من أصول الليبرالية أو أنها مجرد أثر فيها؟ ووجه ذلك: أن البروتستانت سحب الناس من الاحتكام من الكنيسة، وجعل لهم حرية شخصية في قراءة النص، فلعل ذلك كان له أثر فيما بعد في نشوء الأفكار الليبرالية التي تقدس الفرد والحرية.
د- الحروب والتنازعات الدينية، فقد ضاع الطريق إلى الدين، وأصبح الدين سببًا للافتراق والمظالم، وصار أداة بيد السلطات والحكام الظلمة؛ فبدأ البحث عن مخرج لتحييد هذا الدين الذي سبب هذه الإشكالات، وكان ذلك كما يلي:
أوّلًا: إعطاء الملوك حقًا إلهيًا وسلطة مطلقة.
ثانيًا: أخذ الحل اتجاها مغايرًا فانتقلت القداسة للدولة، فسابقًا كان الحكم باسم الله، والآن صارت القداسة للدولة نفسها، وعليه؛ فإن أيّ معارضة للنظام فهي معارضة للحق والعدل، ويستحق المعارضُ الجزاء.
وعليه؛ فإن الحق الإلهي تحرك مرتين: الأولى: انتقل من الكنيسة إلى الملوك. والثانية: انتقل من الملوك إلى الدولة الحديثة، وهو لا يُسمى كذلك في الدولة الحديثة، ومن مسمياته: «النظام»، و«الديمقراطية»، و«السلطة».
الرابع: الصراعات الطبقية، فقد كانت سببًا لنشوء الرأسمالية والاشتراكية، ولها تأثير كبير في الثورات.
س: ما الفرق بين «العوامل المؤثرة في نشوء المذاهب الفكرية» و«الأصول الفكرية للمذاهب»؟
الجواب: أن العوامل هي: الأسباب التي نشأت بسببها المذاهب. والأصول هي: المنطلقات والمعتقدات التي اعتمد عليها صاحب الفكرة.
اختلاف البيئة الحاضنة لهذه الأسباب عن البيئة الإسلامية:
إن تاريخنا الإسلامي لا يعرف هذه النزاعات الدينية، ولا الصراعات الطبقية، وهذا لا يعني أن تاريخنا لا يحمل مشاكل ومظالم، لكنّ المقصود أنك - أيها المسلم - إذا أردت أن تقرأ تاريخك؛ فاقرأه بحسب حاجتك، وإشكالاته نفسها، والخطأ والخلل: أن تُنقل الإشكالات التي عند الغرب إلينا، ومن صور ذلك:
أ- تصوير نظام الخلفاء الراشدين على أنه (نظام ثيوقراطي).
ب- تقسيم التاريخ الإسلامي إلى قديم، ووسيط، وحديث.
جـ- الجزم بأن العلمانية ضرورة حتمية في العالم الإسلامي، فلا بد - بنظر القائل - من وجود خلافات ونزاعات، ثم تأتي العلمانية بعدها.
د- أن التاريخ الإسلامي مليء بالحروب الدينية، والحقيقة: أن ما حصل ليس من قبيل الحروب الدينية، بل إننا إذا قارنا ما حدث في التاريخ الأوروبي بما حدث في التاريخ الإسلامي؛ سيظهر لنا شرف وفضل التاريخ الإسلامي، فالصراعات في التاريخ الإسلامي كانت بحثًا عن سلطة، ولم تكن هناك حرب بين الناس أنفسهم، فعندما كان يُحاربُ جيشُ جيشًا لم يكن ينظر إلى المدينة الثانية على أن كلّ من فيها أعداء له، وإنما هو يريد الحكم، فإذا أسقط القيادة فإن بقية الناس يكونون تابعين له دون وجود مشكلة كبيرة، فقضية الدين لم تكن مؤثرة في التاريخ الإسلامي، بل إن الدين كان من أعظم ضمانات تخفيف الفتنة.
س: هل الخلاف بين علي ومعاوية - رضي الله عنهما - كان من الاقتتال الديني؟
الجواب: لا، ويكون كذلك إذا كان - مثلًا - لكلّ واحد منهما فهم في الدين، ويريد كلّ واحد منهم أن يُطبّق هذا الفهم، فاقتتلوا على ذلك، وهذا لم يحصل، فإن الخلاف بينهم كان في التعامل مع قتلة عثمان - رضي الله عنه -؛ لذلك نجد عليًا - رضي الله عنه - وجيشه كانوا لا يجهزون على جريح، ولا يلحقون الفارين، ولا يقسمون الأموال.
ولعل الفتنة التي حدثت بين الصحابة هي الحرب الوحيدة التي التُزم فيها بأخلاق الإسلام في الحرب، وهذا مما أظهر شرف هذا الجيل: أنه كان في أشد الأحوال التي يتخفف المرء منها من الشريعة تأوّلًا؛ ملتزمًا بأحكام الشرع.